(وضع الزعيم هذا البيان في أول مارس/آذار سنة 1937 وهو في مقر سرّي يضع الـخطط ويتخذ التدابير التي كان من الـمنتظر أن تعقبها إجراءات باهرة تكون لها نتائج خطيرة. ولم يوقف تنفيذ تلك الـخطط والتدابير سوى خيانة عامل بسيط أدّتْ إلى توقيف الزعيم وهو في طريقه لتفقد بعض الـمناطق التي كانت تـجري فيها استعدادات واسعة.
إنّ قيمة هذا البيان التاريخية عظيمة جداً لأنه وُضع في ظروف غاية في الـخطورة هي الظروف التي عقبت الصدام الدامي بين بعض الصفوف القومية وفرقة من الـجند الـمسلح في يوم بكفيا الـمشهور. وإلى هذا البيان يشير عميد الإذاعة السابق الأستاذ الـمحامي الأمين عبدالله قبرصي في مقالة «يا زعيمي» الـمنشور في عدد أول مارس/آذار سنة 1938 من جريدة النهضة (وهو الـمقال الذي ننقله إلى هذا العدد ويراه القارىء في مكان آخر):[1]
يـمرّ لبنان اليوم في عهد من عهود الطغيان لم يعرف له مثيلاً من قبل، ولا سمعت به أذن بشر.
وما طما سيل الطغيان إلا على الـخانعين فطارت نفوسهم شعاعاً. وما أصاب الظلم سوى أكبد الـجبناء فانخلعت قلوبهم فرقاً.
لقد نام الشعب عن تعهد شؤون حياته ومصالـحه فتعهدها ذوو الـمصلحة في ذله واستعبـاده وفنائـه. وسكت أفـراده عن حقـوقهم في الـدولة وشؤونها فاهتضمتها جماعة تدّعي أنها منه وليست منه. فاستبيحت كرامة الناس وحرماتهم باسم القانون، وما كان القانون الذي يـمنع أعضاء الدولة من حقوقهم الـمدنية والسياسية إلا الظلم مشروعاً، واستهدر دم شباب الأمة الذين هم ذخرها للملمات والشدائد باسم الأمن العام، وما الأمن الـمستعدي على حياة الأمة ونهضتها القومية إلا العبودية مكبلة الشعب الـحي بسلاسلها، وإلا الرق متلبساً بلباس العدل. وإلا الطغيان مؤيداً بالقوة.
لقد نامت قوة الأمة مدةً، فحسبها الطغيان قد ماتت. وسكت الشعب فظن ذوو النفع الـخاص أنه قانع خانع، فأخذ الطاغية يظهر شيئاً فشيئاً من وراء ألاعيب الـمناورات السياسية، وابتدأ شبحه يُعْلوْلي فوق أنقاض العمران الـمدكوك وآلام الشعب الرازح. وتـحولت الـجماعة النفعية إلى طبقة حاكمة وأنزل الشعب منزلة الطبقة الـمحكومة، لا رأي له في حال من أحواله، ولا إرادة له في مصيره، بل الرأي رأي فئة جشعة طامعة، والإرادة إرادة نفر اتفقوا على أن يعيشوا على خرائب الشعب، وأن يتلذذوا بآلامه، فعاثوا في البلاد ما شاءت أهواؤهم، وأرهقوا ما طاب لهم الإرهاق، واسترسلوا في البغي حتى لم يُبقوا ولم يذروا. وظنوا، وبعض الظن إثم، أنهم يوقعون الشعب في معترك الطائفية فيبقى لاهياً عنهم في محاولة كل طائفة احتكار الـمصلحة العامة ومحاربة الطوائف الأخرى.
وكادوا يفلحون في إرهاق الشعب وترويضه على العبودية لولا كرامة في الأمة وطيب عنصرها، إذ جاءت النهضة القومية التي يقودها الـحزب السوري القومي منبهة الشعب إلى حقوقه ومصالـحه، موجدة أساس الوحدة القومية، السياسية والاجتماعية، قاضية على الـمنازعات الطائفية، محوّلة الشعب الـمتفرق شيعاً إلى أمة تنظر نظرة واحدة إلى الـحياة، وتريد إرادة واحدة، هي أن تـحيا وترتقي. وما كادت مبادىء هذه النهضة تظهر حتى سرى مفعولها العجيب في نفوس الناشئة وأخذ الشعب يدرك أنّ الـمصلحة مصلحته وأنّ الإرادة إرادته وأنّ الـحياة حياته وأنه ليس لفئة نفعية أو طبقة رجعية أن تقرر مصيره، فكانت هذه النهضة شيئاً لم يدرك أولو الـمصلحة الـخاصة أهميته. ثم أخذ يتحول إلى شوكة في الفراش الوثير تقضّ مضاجع الـمستريحين على آلام الشعب النائمين على ما استفادوه من ويلاته، ثم تدرّج إلى نزاع شديد وصراع مـميت بين حياة الأمة وحياة الطبقة الـحاكمة، بين الـحياة والـموت.
وكان أنّ الطبقة النفعية وجدت أنها في هذا الصراع الطويل ستكون مغلوبة على أمرها، فلجأت إلى كل ما تستطيع الوصول إليه تستخدمه في محاربة النهضة القومية، فكادت لها عند الـمنتدبين وزينت لهم أنها حركة نشأت بإيعاز دولة أجنبية، وجيّشت الـمؤسسات الرجعية فاحتشدت كل قواتها ثم ادعت، وهي ذات الـمصلحة في استثمار الـحكم في لبنان، أنّ النهضة القومية عدوة لبنان!
فمن لبنان ومن نحن يا ترى؟ ألعلنا نحن غرباء عن لبنان؟ إنّ هذا التبجح الفارغ بالغيرة على لبنان والدفاع عن كيان لبنان يجعلنا نتصور لبنان ملكاً خاصاً بهؤلاء الـمدعين، أو شيئاً خارجاً عن الشعب اللبناني وفوق إرادة هذا الشعب، أو أنه شيء من حق بعض اللبنانيين دون البعض الآخر، أو أنه من حق الرجال الذين في الـحكم فقط.
إننا نعلن أنّ كياناً من هذا النوع هو كيان فاسد من أساسه. فإذا كان للبنان كيان فهو كيان الشعب اللبناني كله، وإذا كانت الطبقة الـحاكمة في لبنان تعتبر أنها هي لبنان، وأنّ الشعب ليس سوى الـجماعة الـمحكومة، فلنا الشرف أن نعلن أنّ من أهم أهداف الـحزب السوري القومي إزالة هذه الصورة السيئة لـحياتنا القومية - صورة الـحاكم والـمحكوم - والقضاء على الامتيازات الـمدنية في الدولة.
إنّ الدولة هي جمعية الشعب الكبرى، وكل فرد من أفراد الشعب مشترك في حياة الدولة هو عضو في الدولة، وما السوريون القوميون في لبنان سوى أعضاء في الدولة اللبنانية.
نحن أعضاء في الدولة اللبنانية، ولنا ملء الـحق في إبداء رأينا بشأن مصيرها، ومن يـمنعنا من هذا الـحق يتمرد على سيادتنا!
ليست الـحكومة الدولة، فقد دُفن هذا الـمبدأ مع لويس الرابع عشر وهو يرقد إلى جانبه بسلام!
إنّ لكل حكومة حداً تقف عنده فيما يختص بأمر تقرير الـمصير العام الأخير الذي هو مصير الشعب، لا مصير الـحكومة. وكل حكومة تـحاول أن تربط مصير الشعب بـمصيرها هي تكون حكومة خائنةً مصلحة الدولة. والـحكومة التي تـمنع أعضاء الدولة من التفكير في مصير دولتهم ومن استعمال حقوقهم الـمدنية والسياسية في تقرير هذا الـمصير حكومة قد تـجاوزت حدودها وخرقت حرمة الـمبادىء التي تقوم هي نفسها عليها وعصت إرادة الشعب الذي له وحده حق تقرير مصيرها ومصيره. إنّ حكومة من هذا النوع يجب إعلانها حكومة عاصية! وإني أعلنها حكومة عاصية!
ماذا فعل السوريون القوميون أكثر من التفكير في مصير أمتهم، وإعلان رأيهم في ما يجب أن يكون أساس حياتهم القومية ومثالهم القومي الأعلى، حتى يستحقوا هذا الاضطهاد الظالم من قبل الـحكومة اللبنانية؟
ماذا فعلوا أكثر من مـمارسة حقوقهم الـمدنية والسياسية، التي يُعَدّون مجرمين تـجاه الأمة والوطن إذا تركوا مـمارستها؟
لقد تـحولت حكومة لبنان إلى ديوان تفتيش، ولم يبقَ للبناني أمان في بيته أو في عمله أو في مجتمعه. إنّ حياة كل لبناني قد أصبحت معلقة على الأهواء الغاشمة الـجائشة في صدور صغار الـموظفين وكبارهم. إنّ سياسة الأهواء الأنانية آخذة في قتل لبنان وقطع رزق أهله مدعية الـمحافظة على لبنان.
إنهم يتهموننا بـمحاولة هدم كيان لبنان، ونحن قد صرحنا غير مرة أنّ الـحزب السوري القومي لم ينشأ لغرض هدم كيان لبنان بل لتأسيس العقيدة القومية الصحيحة التي تزيل الـمخاوف التي أوجبت إنشاء كيان لبنان،ولقد وقف الـحزب السوري القومي من الـمعاهدتين السورية - الفرنسية واللبنانية - الفرنسية موقفاً رصيناً وكان أهم عنصر من عناصر النظام وحامل لواء العمل التعميري الهادىء.
وإنّ موقف الـحزب السوري القومي من حوادث الـخامس عشر من نوفمبر/تشرين الثاني الـماضي ومن جميع الـمشاغبات التي حدثت في لبنان وخارج لبنان، شاهدٌ حيٌّ على الـخدمات الـجليلة التي قام بها الـحزب للشعب اللبناني وللقضية القومية التي هي قضية الـمصير العام.
إننا نفهم أنّ ما يدفع الـحكومة اللبنانية إلى محاربة الـحزب السوري القومي ليس غيرتها الشديدة على حياة الشعب اللبناني وتقدمه وفلاحه، التي يعمل لها الـحزب السوري القومي أكثر من الـحكومة اللبنانية، بل غيرة منها على مطامحها في الانتخابات.
وما هي الانتخابات الـمقبلة في حياة الدولة؟
أليست هي تعبيراً عن إرادة الشعب الـحي؟
وهل يـمكن أن تظهر إرادة الشعب تـحت ضغط ظالم يمنع الاجتماعات مهما كانت نظامية ومهما كانت هادئة ومهما كانت مشروعة؟
إنّ الدولة التي تـُمنع فيها حرية إبداء الرأي والاجتماع وتأليف الأحزاب السياسية دولة لا قيمة تـمثيلية لـمجالسها النيابية.
ونحن الآن في عهد جديد نحتاج فيه إلى حرية التعبير عن حاجات الشعب وإرادته. وهذا الـمطلب هو الـجريـمة الكبيرة التي يرتكبها الـحزب السوري القومي ويستحق من أجلها إهراق دم شباب البلاد وزجّ مقدَّميهم في السجون!
إننا لم نحمل ولا مرة على كيان لبنان أو على الـحكومة ولم نتخذ من أي اجتماع وسيلة للإخلال بالأمن أو للشغب على الـحكومة وسياستها على ما فيها من عقم. وكانت الـحكومة قد أعلنت لنا أنها قد أصبحت تفهم مرامي الـحزب النبيلة وأنها لذلك لن تلجأ إلى محاربته، ولعل مصلحة الانتخابات عندها أهم من نهضة الشعب وتقدمه.
إنّ الـحزب السوري القومي يحمّل الـحكومة وحدها عاقبة ما ستجرّه سياستها العقيمة على البلاد!
في أول مارس/آذار 1937
أنطون سعاده
[1] في رسالة إلى جورج بندقي بتاريخ 20/2/1940 يطلب سعاده أن تنشر سورية الجديدة بيان أول مارس /آذار 1937 مع وضع هذا التمهيد له.